Wednesday, March 19, 2008

استحقاقات اللحظة الحرجة

بقلم : فهمي هويدي

في الوقت الراهن بوجه أخص‏‏ وأكثر من أي وقت مضي‏‏ يجب أن تستنفر كل الطاقات الفاعلة في مصر وتستدعي للإجابة عن السؤال‏:‏ ما العمل؟

(1)‏

لا أريد أن أصدق أن الناس يصطفون الآن في طوابير يتسابقون عليها منذ الفجر‏‏ لكي يشتروا حقهم في خبز اليوم‏‏ قبل ثلاثين عاما كنا نستحي حين نذكر لزوارنا أننا نقف في الطوابير لكي نحصل علي الدجاج‏‏ وكانوا يتعاطفون معنا ويرثون لحالنا‏‏

ولا أعرف ماذا يمكن أن يقول هؤلاء حين يرون الناس تتزاحم علي طوابير الخبز‏‏ وحين يعرفون أن عشرة مصريين سقطوا في ساحة العراك من أجل ذلك‏‏ والرقم ذكرته الأهرام في يوم الأربعاء‏3/13‏ في حين قال تقرير قناة الجزيرة في اليوم السابق انهم‏15‏ الدكتور أحمد الجويلي أمين مجلس الوحدة الاقتصادية وزير التموين الأسبق قال لي إنهم لو كانوا واحدا فقط فهي كارثة‏.‏

لا أريد أن أصدق أن في مصر أناسا لجأوا الي الانتحار لأنهم وجدوا أطفالهم يتضورون جوعا وعجزوا عن إطعامهم‏‏ أو لأنهم فقدوا الأمل في العثور علي العمل‏‏ واستبد بهم اليأس وعضهم الجوع‏‏ فلجأوا الي الانتحار بدورهم كحل أخير‏.‏

لا أريد أن أصدق ما رأته عيناي ذات صباح‏‏ حين وقعت علي خبر يقول إن امرأة مسنة وقفت أمام جمع من أعضاء مجلس الشعب‏‏ وقالت لهم إنها وأسرتها لم يذوقوا طعم اللحم منذ ثلاثة أشهر‏‏ وهو كلام أمن عليه باحثون‏‏ قالوا إن هذه ليست حالة خاصة‏‏ وإنما هي ظاهرة عامة في المجتمع المصري الآن‏.‏

بأذني سمعت المهندس نيازي سلام رئيس بنك الطعام‏‏ وهو يقول إنه كلف فريق عمل برصد مظاهر الفقر في الأحياء العشوائية المحيطة بالقاهرة ـ

عاصمة أم الدنيا ـ وأعدوا شريطا وثائقيا‏‏ لم يصدق أحد ممن شاهدوه أنه يسجل واقعا حاصلا في مصر‏‏ ومنهم من انفجر باكيا من هول ما رأي‏‏ حتي طلبوا إيقاف عرض الشريط‏‏ سمعته يقول أيضا إن في بعض قري الصعيد أناسا استبد بهم الجوع حتي أصبحوا يأكلون الفئران البرية‏.‏

مثل هذه الشواهد لا حصر لها‏‏ وكلها تقول بصوت مدو يخرق الآذان‏‏ إن غول الغلاء قد توحش وأصبح ينهش أجساد الفقراء النحيلة‏‏ علي نحو بات يضغط عليهم بشدة بصورة أذلتهم وكادت تقصم ظهورهم‏‏ وهؤلاء الفقراء أصبحوا يشكلون الكتلة الكبري والأغلبية الساحقة في المجتمع‏‏ الذي بات مقسما بين أثرياء ـ بعضهم لا حدود لثرائهم ـ وفقراء لا نهاية لأحزانهم وفقرهم‏‏ وهي صورة لا تدع مجالا للشك أن مصر تمر الآن بلحظة حرجة للغاية‏‏ لا تصلح معها المسكنات والمهدئات‏‏ وتتحول معها التصريحات المتفائلة الي مصدر للاستفزاز والسخط‏‏ ودليل يعزز من أزمة الثقة ويعمق في الشرخ الموجود في المجتمع‏.‏

(2)‏

أرجو ألا يكون الرد علي كل ذلك أرقاما ونسبا مئوية تتحدث عن معدلات النمو الجيدة ومتوسطات الدخول المحترمة‏‏ ومئات الألوف من فرص العمل التي توافرت‏‏ وملايين الدولارات التي دخلت سوق الاستثمار‏‏ لعدة أسباب أحدها أننا لا نستطيع أن ندعي أن معدل النمو مرتفع وفرص العمل تنهال علينا كالمطر والسياسة الاقتصادية حققت أهدافها‏‏ لكن أحوال الناس متدهورة ويرثي لها‏‏ ذلك أننا سنصدق كل ذلك ونتأكد من صحته حين يشعر الناس بأن هذه الانجازات طرقت أبواب بيوتهم ذات يوم‏‏ السبب الثاني أن تقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية الصادر عن مؤسسة الأهرام عن العام الحالي‏‏ سجل تضاربا في الأرقام المعلنة المتعلقة بمعدلات النمو ونتائج جهود مكافحة البطالة والفقر‏(‏ من ص‏198‏ الي‏202)‏ الأمر الذي يضعف الثقة في صدقية تلك الأرقام‏.‏


مع ذلك‏‏ فإننا اذا صدقنا ما يقال من بيانات رسمية‏‏ وأحسنا الظن بها‏‏ وفي الوقت ذاته وجدنا أن الأوضاع المعيشية للناس تزداد سوءا‏‏ فذلك يعني ثلاثة أمور‏:‏ أولها أن المشكلة الاقتصادية والاجتماعية لم تحل‏‏ وثانيها أن ما أتخذ من إجراءات ليس كافيا‏‏ وثالثها أن السياسات المتبعة ذاتها تحتاج الي إعادة نظر‏.‏

نسمع حديثا مستمرا عن ارتفاع الأسعار العالمية‏‏ وذلك حق يراد به باطل‏‏ أولا لأن ارتفاع الأسعار العالمية لا يشمل كل السلع‏‏ في حين ان الارتفاع الفاحش في الأسعار لم يستثن سلعة موجودة في السوق المصرية‏‏ ثانيا‏‏ لأن ثمة دلائل تشير الي أن ارتفاع الأسعار العالمية بولغ فيه كثيرا‏‏ بحيث احتج به بعض الصناعيين ليضاعفوا أسعار منتجاتهم بمعدلات أعلي بكثير من معدل الارتفاع في السوق العالمية‏‏ وجنوا من وراء ذلك أرباحا خرافية‏‏

آية ذلك أن أحد كبار الصناعيين صرح للصحف في الأسبوع الماضي‏‏ بأنه دفع ضرائب عن السنة المالية الأخيرة بما قيمته‏375‏ مليون جنيه‏‏ واذا صح ذلك‏‏ وكانت تلك قيمة الضريبة التي دفعها علي صافي ربحه في العام‏‏ بعد سداد كل التكاليف والنفقات ـ فمعني ذلك أنه حقق ربحا يعادل مليارا و‏700‏ مليون جنيه في عام واحد‏‏ وهو ربح هائل لا نحسده عليه‏‏ لكنه يفسر لنا في نفس الوقت لماذا ظل سعر السلعة التي ينتجها يتزايد علي مدي العام كل شهر‏‏ وأحيانا كل أسبوع‏‏ متذرعا في ذلك بارتفاع الأسعار العالمية‏‏ في حين تبين لنا أن تلك الزيادات التي ضربت سوق العقارات‏‏ كان هدفها زيادة أرباحه بمعدلات فاحشة‏‏ وليس تغطية ذلك الارتفاع في الأسعار‏.‏

علي صعيد آخر‏‏ فإن تأثر مصر الشديد بارتفاع الأسعار العالمية‏‏ جاء كاشفا لمدي هشاشة وضعف هيكلها الاقتصادي‏‏ الذي أصبح يقوم علي الخدمات بالدرجة الأولي وليس الإنتاج‏‏ لأن الدول اذا كان لديها ما تنتجه فإن اكتواءها بنار ارتفاع الأسعار العالمية يظل محدودا‏‏ خصوصا اذا كانت تصدر شيئا مما تنتجه‏‏ مما قد يحدث توازنا مع ما تستورده‏‏ أما الدول غير المنتجة فإنها تصبح فاقدة المناعة أمام رياح الأسعار العالمية‏.‏

(3)‏

قبل سبعين عاما‏(‏ سنة‏1938)‏ قام أحد اليابانيين المسلمين ـ اسمه تاكيشي سوزوكي ـ برحلة لأداء مناسك الحج‏‏ وبعد أن عاد ألف كتابا عنوانه ياباني في مكة ـ ترجمه الي العربية الدكتور سمير عبدالواحد إبراهيم وزوجته اليابانية سارة تاكا هاشي ـ ولأسباب متعلقة بتأشيرة الدخول‏‏ جاء الرجل الي القاهرة واستقل الباخرة من السويس الي جدة‏‏ وهم علي الباخرة‏‏ عرض عليه فيلم فكاهي أمريكي‏‏ وفيلم تجاري مصري‏‏


وهو يصف الفيلم الأخير قال إنه بدأ بعرض مهرجان أو حفل مقام في قرية مصرية‏‏ قدمت فيه بعض النسوة رقصات مختلفة‏‏ في حين جلس آخرون يتابعونهن‏‏ وقد قامت واحدة من بين المتفرجين لتشترك في الرقص‏‏ ولكن الأيدي امتدت لتجذب ثوبها‏‏ الذي تمزق‏‏ فسألتها الراقصات عن مصدر قماشه‏‏ وعرفن أنه ياباني الصنع‏‏ فشرعن في توبيخها لهذا السبب‏‏ مما أثار استياءها ودفعها الي الاشتباك معهن بكلام تطور الي عراك‏‏ حاولت خلاله المرأة أن تنال من ثياب الأخريات لكنها فشلت‏‏ وحينئذ قالت لها النسوة‏:‏ لماذا اخترت القماش الياباني الضعيف‏‏ وفي مصر أفضل منه‏‏ وشركة مصر للأقمشة تنتج أصنافا رائعة‏‏

وعلي المصريين أن يستخدموا منتجات بلدهم‏‏ وأن يتخلوا عن الأقمشة المستوردة‏‏ وفي اللحظة الأخيرة من الفيلم ذهبت المرأة باكية الي المدينة واشترت قماشا من إنتاج شركة مصر‏‏ وعادت الي الحفل فرحبت بها الراقصات وصرن جميعا صديقات لها‏‏ وعند هذه النهاية صفق المسافرون الي الحج طويلا‏‏ وهو ما أغاظ صاحبنا الياباني‏‏ الذي لم يسترح إلا عندما وجد أن الشاشة التي عرض عليها الفيلم مصنوعة في اليابان‏!‏ أذكر بأن ذلك حدث قبل سبعين عاما‏‏ حين كان في مصر صناعة للنسيج تعتز بها‏‏ وكانت هناك غيرة علي المنتج المصري‏‏ الذي تدهور الآن‏‏ وسقط من أعين المصريين‏.‏

(4)‏

لست أشك في أن الذين اعتزوا بالقماش المصري وقتذاك وأرادوا اقناع ركاب الباخرة بأنه أفضل من الياباني‏‏ لم يخطر علي بالهم الموقف الذي وصلنا إليه الآن‏‏ وربما تصوروا أن بلدهم سوف يكتسح اليابان في الأسواق‏‏ الأمر الذي يطرح علي أهل الذكر في مصر سؤالين كبيرين هما‏:‏ لماذا جري ما جري‏‏ وهل المشكلة في الاقتصاد أم في السياسة أم في الاثنين معا؟ ثم ما العمل؟

ولأنني لست من هؤلاء‏‏ فلا كلام لي في الموضوع‏‏ لكني لا أتردد في القول بأن النتائج التي تحققت حتي الآن تدلنا علي أن خطأ جسيما حدث في التشخيص أو التنفيذ أو السياسات أو الأشخاص والآليات‏‏ وفي كل الأحوال فالأمر لا يحتمل انتظارا‏‏ وانما يحتاج الي مراجعة شاملة وعاجلة‏‏ تصوب الخلل أيا كان مصدره‏‏

والعجلة ليست وحدها المطلوبة‏‏ وانما نحن بحاجة الي شجاعة أيضا‏‏ لأن الذين أعطوا أكثر من فرصة واستنفدوا مرات الرسوب‏‏ يجب أن يخلوا مواقعهم لمن يستطيع أن يسترد ثقة الناس‏‏ وينهض بما عجزوا عن القيام به‏‏ واذا كان مدرب كرة القدم يستبعد بمجرد الفشل في أي مسابقة مهمة‏‏ فإن إدارة اقتصاد البلد واستقرار أوضاع الناس المعيشية ليست أقل أهمية من مباريات كرة القدم‏.‏

لقد قال لي أحد الوزراء المخضرمين‏‏ إن الرئيس جمال عبدالناصر كان يقول في اجتماعات مجلس الوزراء‏‏ إن هناك سلعا اذا نقصت في الأسواق يوما ما‏‏ فينبغي ألا يذهب الوزير المختص الي مكتبه في اليوم التالي‏‏ وحدد هذه السلع بخمس هي‏:‏ الخبز والقمح والفول والعدس والسكر ـ ما رأيكم دام فضلكم؟